نافذة

هروب الموناليزا... بوح قيثارة مقال الروائي حسين السقاف Print
هروب الموناليزا... بوح قيثارة

حسين السقاف

الرواية التي نحتفي بها اليوم، رواية يشير الإهداء فيها، إلا أن الحب والشهادة (الموت من أجل فكرة) هما الركيزتان الأساسيتان لفكرة الرواية وبنائها... جميع النساء اللواتي غيبهُنَّ الموت داخل الرواية لم يمتنَّ من أجل فكرةٍ آمنَّ بها، بل قُتِلنَّ بفكرةٍ آمن بها أصحاب عقول عفنة توارثوا العفونة جيلاً بعد آخر. أما الحب، فالألم والخيبة خير ما يتميز به وهو يعيش بين صفحات الرواية...
الإهداء... إلى ذكرى صديقتي الشهيدة "موناليزا أمين" التي استعرتُ اسمها الأول حباً.
إلى المعذبين بالحب حتى آخر الزمن...

الرواية التي لا تخلو من غضبٍ معلن تطلقه المرأة صوب عالم الرجل... لا تخلو أيضاً من الخوف الحاضر بشكل واضح في الرواية... الخوف من السلطة... من الرجل.. من الحشرات... من الاختراق... من الشيخوخة... من الهجران وغيرها.. حتى بات الخوف، الدافع الأكبر للكذب... "علّمني الخوف أن أكذب."

ترتكز قيثارة بلقيس حميد على أربعة أوتار رئيسة... الوتر... وتري... وترها... و، وتر... أربعة أوتار، تماماً كما كانت القيثارة السومرية في بدايتها، وكما تعددت الأوتار بعد ذلك، تتعدد أوتار قيثارة بلقيس حميد تحت عناوين مختلفة لتشكل أوتار قيثارتها الخاصة.. إنها قيثارة حياة... حياة تتصارع فيها الموسيقى مع أنين أوجاع بشرية لم يقترف أصحابها ذنباً سوى أنهم "عاشوا العراق"

إمرأتان تتقاسم الرواية يومياتهن "ذكرياتهن" آلامهنّ وأفراحهن وإن كانت شحيحة... الأولى (موناليزا) التي تحاول نهاية سبعينيات القرن الماضي، الهروب من بلدها "العراق" حيث المجهول...
يرفع الضابط صوته منادياً:
- موناليزا سامي الخطيب
- أنا موناليزا.
- أنتِ ممنوعة من السفر.
كابوس عراقي عرفته أغلب المنافذ الحدودية العراقية نهاية السبعينيات، هذا الكابوس الذي تطرحه لنا رواية بلقيس حميد، بمشاهد تغلفها اللوعة والخوف، ولا تخلو من دراما تسجيلية متقنة.
والمرأة الثانية (سومر) الفنانة الموسيقية التي تجاهد من أجل الهرب صوب حبيب لعوب أدخلها عالم القلق والحرمان، من خلال سيل من الأكاذيب...
ومن خلال أحاديث "موناليزا" و"سومر" تعيدنا الطبيعة السردية لرواية بلقيس حميد إلى ذكريات وحكايات طالما استمتعنا بسماعها، قصص عن أشخاص عاشوا بيننا عن طريق الحكاية، "عطشان" السجين الذي خرج من السجن بعاهتين، فهو مفقوء العين، ويده اليمنى مثقوبة بقدر تستطيع معه إدخال اصبعك في ذلك الثقب... و "عدالة العمياء" التي يغتصبها ابن عمها، ليدخلها إلى عالم المتعة الساحر الذي لم تتذوقه من قبل، فتطلب المزيد من الوصال مع مغتصبها لتكون جثة هامدة حين يكتشف أخوها حملها... ثم نقرأ حكاياتنا مع ليل الصيف وسطح الدار وتأمل النجوم... وحكايات خوف الأطفال وذعرهم من الشرطي حين يمر إلى جانبهم... حكايات الصبيان والبنات وهم يلعبون العروس والعريس... حكايات الصبية التي تصنع دميتها بيدها، لتكوِّن بالتالي عائلة كاملة من الدمى وجوههم دائرية بقدر اتقان دائرية "سيفونة البيبسي" أو أغطية المشروبات الغازية كما جاء في الرواية... وحكاية نورية التي يقتلها عمها وهي لم تكمل الرابعة عشرة من عمرها حين يكتشف حملها من رجل موطف... وحكاية سجين سياسي في العهد الملكي سمع أصوات نساء في الزنزانة المجاورة... خفق قلبه للصوت وأطل برأسه صوب مصدر الصوت وإذا به يشاهد امرأة جميلة تمضغ علكاً، سألها سبب وجودها، أجابت:
- أنا عاهرة، وانت؟
- أنا شيوعي
- نفس الشيء... قالت ثم أردفت:
- الحكومة ما تقدر إلا علينا وعليكم.

الرواية التي ظهرت بطبيعة سرد روائي على غير ما هو معتاد، حيث الإنتقال من الشخصية الرئيسة في الرواية إلى شخصيات هامشية غالباً ما يمنح القارئ متعة أكبر وهو يعيش قصص الشخصية الهامشية وإن كانت مروية على لسان الشخصية الرئيسة... في هذه الرواية تطرح المؤلفة العديد من الأسئلة، أسئلة نجدها منبثقة من صميم واقعنا، أو من صميم دواخلنا...
* هل أستطيع فعلاً نفض العبودية عني بكل أنواعها؟
* هل سيبقى الصوت الشرقي يطاردني كشرطي حتى في المهجر حيث الحرية والانفتاح والأمان؟
* لِمَ يكون نصيب الفقراء الطيبين دائماً هو الضحية، هل لأنهم لا يملكون ما يضحون به سوى قلوبهم وأرواحهم...؟
* هل العشق في المنفى، عشق حقيقي؟ أم علاقة مشوبة بالوهم غالباً؟
* هل يقترن الحب بالهدوء أم القلق؟ وأي ساعة حب، هي الحقيقة؟
* أين حرية المرأة في الاختيار حينما تنام مع رجلٍ لا تقبله إلا لأنه يدفع فقط؟
* هل الإحساس بالسعادة يدخل ضمن ذكاء الإنسان أو غبائه؟
وغيرها العديد من الأسئلة التي تذكرنا بمقولة ذلك الفيلسوف الذي طبع كلماته في أذهاننا ومضى... "لا يكمن الذكاء في الإجابة على الأسئلة... بل يكمن في صياغة السؤال."

ما يميز رواية "هروب الموناليزا" هو كثرة البوح بأسرار شخوصها، نزواتهم، عشقهم، كذبهم، ذنوبهم، وحتى ثورات الجسد شوقاً للحيبب... وهاي سومر تعترف لحبيبها حين ثار جسدها شوقاً له، بصورة لا تخلو من الجنون والعبث... "تعال، أريدكَ الآن، قد لا تصدق إن قلت لكَ إنني لم أمرّ بهذه الحالة منذ سنوات.... الغريب، عندما فتحت التلفزيون شاهدت وقوع أكبر كارثة زلزال منذ أكثر من أربعين عاماً، وجدت تسونامي أندونيسيا المرعب.. غريب أن يثور جسدي مع ثورة الأرض والبحر، ها أنا أجنّ شوقاً لجسدك رغم رؤيتي الجثث تتكدس أمامي والموت ينتشر..."

توفّر بلقيس حميد وتر أخير ليكون ضربة الإيقاع الذي يلعن إسدال الستار على مسرحية لم تكتمل، فكيف يكتمل المشهد الأخير ومسرح العراق لم يسدل ستائره حتى هذه الساعة... تأتي ضربة الإيقاع الأخيرة بعنوان "وتري الطليق" لنقرأ أو نعيش هروب "موناليزا" من العراق باسم مزور، لتبدأ رحلة المنفى العراقي الذي ما زال مستمراً رغم التغيير... في هذا الفصل تحاول المؤلفة أن تثير اسئلة جديد كي تمهد لإعلانها عن ولادة رواية جديدة قريباً، أو بوحٌ جديد كما جاء في خاتمة الرواية
أين ذهب، وماذا حصل؟
أين زوجي؟
وهل سأنجب طفلي بظرف طبيعي؟
كل هذا سيكون في بوحٍ آخر.
2-3-2014