نافذة

انه الموت..أن تكون معروفا ببلد آخر ومجهولا في وطنك Print

انه الموت..أن تكون معروفا ببلد آخر ومجهولا في وطنك

حوار مع الشاعرة العراقية بلقيس حميد حسن

2004 / 11 / 4
حاورها:
محـــمد الحسيني – لندن
عبد الهادي مناع - تورنتو
عـلاء مهــدي – سدني

لم يعد الطريق وعراً ، فكل الطرق والاتجاهات أصبحت معبدة ، آمنة ، يسلكها العراقيون متى ما حزموا أمرهم. فالظروف العصيبة التي
فرضها نظام صدام حسين البائد على شعب العراق قد مهدت الطريق أمام العراقيين لعبور المخاطر تخلصاً من جور نظام أرعن باتت مخاطره لا تقاس بأية مخاطر أخرى محتملة قد تواجه المهاجرين والمهجرين وهم في طريقهم لمساحات الحرية في كل بقاع هذا العالم. ففي منتصف القرن الماضي كان مجرد القيام بسفرة بين المدن العراقية يستدعي الكثير من التحضير والتهيؤ تحسباً من عواقب المحذور من ملابسات السفر رغم قِصرَ المسافات ، ميزة الحرص هذه كانت وليدة تفاعلات اجتماعية مرتبطة بطبيعة الحياة العراقية المحافظة والأمينة.
وفي غفلة من الزمن وجد العراقيون أنفسهم تحت مطرقة نظام بسط نفوذه العائلي – العشائري – الطائفي على كل مقدرات الوطن والشعب العراقيين. وأمام استفحال ذلك الأخطبوط لم يجد العراقيون بدأً من الاتجاه نحو المجهول ، عبر الحدود وبكل الاتجاهات غير آبهين بما هو محتمل من مخاطر لا يمكن مقارنتها بمخاطر الوطن آنذاك.
رحل الكثيرون ورُحِلَ كثيرون فانتشروا في كل بقاع الأرض بعقول نيره ومواهب نادرة وقدرات متميزة ، رحلوا تاركين خلفهم أحبتهم في وطن غطته دماء زكية طاهرة بفعل عابث شقي مستبد ، رحلوا على أمل العودة لزيارة مقابرهم الجماعية التي زرعها المتسلطون ما بين كل نخلتين عراقيتين انتقاماً من شهامة ونزاهة ومواهب وقدرات العراقيين الشرفاء.
أدباء، كتاب ، صحفيون ، شعراء ، فنانون ، مسرحيون ، علماء ، أطباء ، مهندسون ، تجار، والقائمة طويلة . . قدرات وكفاءات كان العراق بهم فخوراً لكن الجهلة هم من كانوا أصحاب القرار. . الملايين هربت خوفاً من أن يزرع النظام فيهم قنبلة ، خوفاً من أن يختارهم ليزيد من حطب المقابر الجماعية ، خوفاً من أن يذلَّ أحبتهم وأهاليهم ، خوفاً على كرامة عوائلهم وعشائرهم . .

 

لماذا بلقيس حميد حسن ؟
لأنها شاعرة متميزة ، حملت راية النضال من خلال القصيدة والكلمة ، فكانت شعلة عبرت الرافدين العظيمين ، ثم الحدود فالبحار ، لتسكن في مدينة العدل ، لاهاي الهولندية. بلقيس الباحثة عن الأمان والحرية ، المهاجرة من سوق الشيوخ في عمق الجنوب العراقي الدامي، حطت رحالها في لاهاي ، رافعة بفخر راية العدالة والحرية والمساواة مدافعة عن حقوق الضعفاء والفقراء أمام جبروت القوة والظلم العالمي.

 

من هي بلقيس حميد حسن ؟

 

-ولدت بلقيس في مدينة سوق الشيوخ-محافظة ذي قار-العراق -نشأت وسط عائلة شعرية حيث كان والدها عبد الحميد السنيد شاعرا يلقنها وأخوتها الفية بن مالك وبعض عيون الشعر العربي-منذ صغرها تكتب الشعر حتى حازت على جوائز عدة وهي لما تزل طالبة في الثانوية صدر لها حتى الآن- اغتراب الطائر باللغة العربية في عام1996 ( دار السندباد سوريا ) والذي ترجم إلى اللغة الهولندية كأول مجموعة شعرية لأ مرأة عربية حيث صدر باللغتين العربية والهولندية عام1998 وقد نفذت الطبعة من الأسواق في العام الأول لصدورها- -مخاض مريم باللغة العربية في عام 1997 ( دار الطليعة الجديدة سوريا) وترجم من قبل ك.نايلاند وهو بروفيسور مستشرق في جامعة لايدن والترجمة الآن تحت الطبع- المجموعة الثالثة بعنوان (أجمل المخلوقات رجل) لازالت لم تطبع بعد بسبب ظروف حياتية معينة- منهمكة بلقيس الآن بكتابة روايتها الأولى ولديها ديوان شعر جديد تهيئه للطبع.
-تتميز بلقيس بحافظتها الشعرية النادرة وبطريقة القائها الخاصة والمعبرة-ارتحلت من بلدها العراق عام 1979 بسبب الظروف السياسية ودموية النظام العراقي المقبور , وكان لبنان محطتها الأولى حيث عملت بصفوف المقاومة الفلسطينية حتى عام 1982 وذلك ابان الاجتياح الإسرائيلي للبنان ومن ثم استقرت في سوريا - درست في كلية الحقوق جامعة دمشق عام 1994 رحلت الى هولندا
-كتبت بلقيس العديد من المقالات والمحاضرات التي نشرت بأغلب وأشهر الصحف والمجلات العربية, التي تناولت بها حقوق الإنسان ,قضايا الشعوب المضطهدة ووضع المرأة في العالم العربي والعراق خاصة, إضافة الى نشر المقالات السياسية والكثير من القصائد .
- قدمت بلقيس وحاورت العديد من المبدعين العرب في الأمسيات التي دعتهم اليها مكتبة لاهاي المركزية مثل الكاتب واسيني الأعرج , الكاتبة أحلام مستغانمي , الكاتب فؤاد التكرلي , الباحث علي الشوك والمناضل الكاتب بحقوق الإنسان الدكتور هيثم مناع وغيرهم أبرز نشاطاتها
- شاركت في العديد من الأماسي والمهرجانات الشعرية التي دعيت لها في سوريا, مصر, المغرب, فرنسا ,الدانمارك, السويد, المانيا, بلجيكا, انكلترا إضافة إلى حضورها الكبير في العديد من المناسبات والفعاليات الهولندية, كما - أجريت لبلقيس العديد من المقابلات الإذاعية والتلفزيونية في هولندا , سوريا , مصر المغرب و لندن وغيرها
- ُكتب عن شعر بلقيس العديد من المقالات في الصحف والمجلات العربية التي أشادت بموهبتها الشعرية
- اختيرت بلقيس مع عشرة من شعراء هولندا لتكتب أشعارهم على أعلى مباني مدينة لاهاي وان تلتزم بلدية لاهاي بإحياء ذكراهم بعد خمسين عاما وبعد مئة عام وسيصبح مبنى البلدية توأما مع قصيدتها (اعتراف) وهي إحدى قصائد ديوانها( اغتراب الطائر)
- اختيرت بلقيس من قبل منظمة العفو الدولية مع 150 شاعرة عالمية ضمنهن خمسة شاعرات عربيات هن نازك الملائكة ,فدوى طوقان, ,سعاد الصباح وظبية خميس,وذلك كأهم شاعرات العالم, واللواتي تمتاز أشعارهن -كما جاء في الكتاب-بالكفاح من أجل الحرية والتوق الى عالم خال من الاضطهاد والحروب والظلم بل والرغبة في توضيح العلاقة الملتبسة بين المرأة والرجل وذلك بكتاب صدر عام 2000 باللغة الهولندية تحت عنوان(أفضل للحب ان لا يسمى) حيث كتبت دار النشر( دي خوس) التي تعد أكبر وأشهر دار للنشر في هولندا : ان النصوص الشعرية لأهم شاعرات العالم, و قد اختيرت النصوص من لجنة مؤلفة من شاعرات عالميات ثلاث منهن قد حزن على جائزة نوبل العالمية للشعر.
- اختيرت بلقيس كواحدة من اشهر شعراء لاهاي بكتاب صدر عام 2001 - ساهمت بديوان شعر مع شعراء هولنديين بعنوان (شعر , لا قنابل) وذلك عام 2003
- عملت بلقيس في العديد من المنظمات الديمقراطية والإنسانية .وهي
- رئيسة المنظمة العراقية للدفاع عن حقوق الإنسان في هولندا
- عضو الأمانة العامة للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في هولندا
- عضو اللجنة الإستشارية للجمعية المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان
- عضو لجنة إعلام الخارج لرابطة المرأه العراقية
- عضو الهيئة الإدارية لرابطة بابل للكتاب والصحفيين والفنانين العراقيين في هولندا
- تعمل حاليا في المكتبة المركزية لمدينة لاهاي.


حوار مع الشاعرة بلقيس حميد
( اعتمدنا مقاطع من قصائد منشورة للشاعرة بين فقرات الحوار)

 

في بيئة محافظة تعاني المرأة فيها الكثير من القمع والكثير من الممنوعات، وليس أمامها سوى المطبخ وبيت الزوجية، ما هي الظروف التي ساهمت في إطلاق مواهب بلقيس حميد الأدبية والفكرية، وبالتالي جعلت منها امرأة متميزة في طريقة تفكيرها وفي اهتماماتها وفي شخصيتها؟

 

نشأت بوسط عائلة شعرية حيث كان والدي عبد الحميد السنيد شاعرا وكانت أمي عاشقة للشعر وحافظة له وخالي حسون البحراني شاعرا كذلك جدي لأبي فكنت أينما التقت أرى دوحة من الشعر تنتصب أمامي لأدخلها وأردد غناء شجيراتها ونخلاتها , وقد أهتم والدي بأمر تعليمنا القوافي وبحور الشعر وحفظنا الموسيقى الشعرية بطريقة غنائية رسخت بأذهاننا , لا يمكن من أن يكون إنسانا والده مثل والدي إلا أن يكون شاعرا , كان رجلا موسوعيا , حافظا لكل أنواع الشعر , عاشقا للجمال ,للخير والحياة , معطاء , كل ليلة من ليالينا عندما يعود والدي يكون لنا أمسية شعرية , حيث نتطارح الشعر ونتسابق في نظم الأبيات إذ كان والدي ينظم لنا صدرا من بيت شعر وأنا وأخوتي كل واحد يكمل البيت بعجز من نظمه , وأحسننا بيتا هو الفائز بجائزة اليوم ,التي غالبا ما تكون حلويات وأشياء مما يغري صغار السن , كان بيتنا مليئا بالشعر والحياة, صاخبا بالفن , جميعنا يحفظ الأغاني وجميعنا يكتب الشعر وجميعا ينصت لأبي ويلتقط منه الكلمات ليخبئها بأعز مكان من قلبه وفكره , هذه الأجواء هي التي صنعت شخصيتي فسنين الإنسان الأولى أهم سني حياته والتي تضع الخطوط العريضة لتوجهه ولمواهبه المقبلة .إضافة إلى ذلك كانت أمي امرأة راوية مثل أبى يحدثانا عن الأوضاع السياسية في أزمان كانت المنطقة ضاجة بالثورات والتمردات مثل ثورة 35 19ضد الإنكليز وعن ثورة 58 19وعن عبد الكريم قاسم, وتعذيب الناس بالسجون في 1963 حيث كان بعض أقاربي ضمن المسجونين والمعذبين , كان جو البيت جوا خصبا للاستفسار عما يجري منذ الطفولة , لذا كنت صغيرة حينما أحببت الفقراء والمعذبين , كرهت الظلم , خاصة الظلم الاجتماعي للمرأة وأنا أرى في سوق الشيوخ بعض النساء يختفين ويقتلن لمجرد الشك بعلاقة محرمة مع رجل , أو اتهام من مغرض , كنت صغيرة جدا عندما سمعت الحديث الخافض بين النساء حول مقتل إحدى النساء وهي امرأة عمياء بالأربعين من عمرها , اغتصبها ابن عم لها- وكان بعثيا- , فما كان من أخيها إلا أن استدرجها لبستانهم ليقتلها, كنت أسمع برعب هذه الأشياء , أخافها كمن يرى فلم رعب , واسمع أخرى تذبح ويقطع رأسها ليفصل عن جسدها على يد ابن عمها لأنها لمجرد استعارت كتابا من إحدى زملائها , ثم بعد مقتلها عرفوا أنها عذراء, كانت النسوة الكبيرات يحاولن إخفاء ما يجري عن صغيرات السن , لكنه كان يصل ويرعبنا , كنت أتحدث مع ابنة خالتي عن ما يجري وعندما كنا نلعب أمام منزل القتيلة ونرى بابها المغلق والذي علته الغبرة بعد غياب , اشعر أحيانا أن يدا ستمتد بسكينها لتقطع رقابنا لأننا إناث , كنت أقول لابد عندما أكبر سأكتب عنهم , كان عقلي الصغير يرفض ذلك الوضع وأشعر بالحصار والضيق منه , أرى أن شيئا ما خطأ لابد وأن يصلح , وان هناك ظلما هائلا يسلط على الضعاف , فكنت أحلم كثيرا , وكنت عندما آوي إلى الفراش ابتدع عناوين لكتب كنت أقول سأكتبها , وكنت أتمنى, وأحلم بعالم آخر ستقرءون عنه في ما اكتب في روايتي عندما انتهي منها, كل يوم أكمل ما حلمت به البارحة حتى أنام, فبحثت عن تنظيم انفس به ما أخبئه من طاقة للصراخ , فانتميت لرابطة المرأة العراقية ولم يكن في سوق الشيوخ وقتها منظمة فجمعت من صديقاتي وقريباتي فاصبحن أول الأمر تسع نساء ثم ازدادت هذه النسوة حتى بلغن في نهاية السبعينات منظمة بها ما يقارب 80 امرأة وكنت أنا عضوه في الهيئة التي تقود بقية النساء في المحافظة التي تقود اقضيه ونواحي كثيرة وكانت الشهيدة موناليزا امين هي التي تقود المنظمة بالمحافظة ككل , وهي صديقة وأخت رائعة وحبيبة وقد تعلمت منها الكثير الذي لا يمكن ان أنساه بحياتي , كنت أنا اصغر عضو في الهيئة هذه , كانت معنا أم سلمان وهي امرأة بسن والدتي لهذا كنت اشعر أحيانا بالخجل من كوني اجلس معها بهيئة واحدة , وكن زميلاتي جميعهن نساء رائعات يعانين كثيرا لتسيير أمور الحركة وتنشيطها في جو ظروف اجتماعية عصيبة , كان عملنا سريا محفوفا بالمخاطر السياسية والاجتماعية , حتى أن أهلي كانوا لا يريدونني أن اعمل بأي تنظيم سياسي وككل أهل يخشون على ابنتهم في ظل نظام فاشي مرعب , فكنت أعاني وأرتب حضوري للاجتماعات بحجج عديدة أعد لها بعض الشباب التقدمي من أقربائي لمساعدتي , شيء يشبه المسلسلات التي لابد وأن تكتب ويقرأها الناس ليعرفوا معاناة المرأة وبأنها أن أرادت ان تحقق شيئا وآمنت به سوف تبتدع آلاف الأساليب للوصول أليه مهما صعبت الطرق, , حتى الكتب التي كنت أقرأها حول حرية المرأة, أو السياسة أو الكتب الفلسفية الممنوعة كنت لا أقرأها إلا بعد أن ينام جميع أهلي , وكنت أخبئها في كوميدينة صغيرة وأحمل مفتاحها معي دائما , لا أدر كيف شك أهلي ما بداخل هذه الكوميدينة يوما , وإذ بهم يحرقون كل الكتب التي كانت ليست ملكي إنما مستعارة من الآخرين ومن المعارف ومن التنظيم , وحين تأكدت ذاك اليوم من نوم أهلي وكان يوما صيفيا والأهل في السطح هرعت الى الكوميدينة لأواصل قراءتي للكتب فإذا بالكتب غير موجودة جميعها ولا ورقة , بحثت في كل مكان وعرفت أن هناك شيئا ما , شعرت حينها بأن ثورة عارمة اشتعلت بي وأحرقت كل صبري وتمسكي بما عندي من طاعة للأهل, صرخت ساعتها بأمي بصوت عال وأنا أشعر أنني سأموت من القهر , كمن يرى النار تسري بملابسه , فنادتني أمي من السطح بصوت منخفض لأسكت فالناس نيام ونزلت لتقول لي سأحرقك أنت مرة أخرى لو جلبت مثلها , لكن الثورة والإصرار وأنا لازلت بسن السادسة عشر كان يزيدني تمسكا بموقفي فرددت على أمي قائلة : إن أحرقتها أو أحرقتني فهناك آلاف غيرنا سيعملون ما نريد ويحققون أهدافنا , ثم شعرت بضرورة التعبير عن رفضي لما فعلوه ليس قولا إنما فعلا , فقمت بالإضراب عن الطعام لكن ابنة خالتي وصديقتي المقربة كانت تزورني يوميا تقريبا وتحمل الطعام تحت عباءتها لي دون أن تراه أمي , كنت أريد أن أفرض حريتي وأقول لهم أنها ليست حرية ساذجة وليست حرية من أجل شيء تافه إنما من أجل الجميع , لكن أختي رغم وقوفها مع أمي أبدت إعجابها بقوتي رغم أنني اصغر أخواتي , واعترفت أخيرا بأنني كنت الأقوى , كان العراق بالسبعينات يتميز بمد ثوري وبصعود للفكر العلماني وفكرة حرية المرأة , حيث ساهم قيام الجبهة الوطنية – رغم ما بها من نواقص وأخطاء_ عام 1973 والتي كان الحزب الشيوعي طرفا هاما بها إذ كانت قاعدته واسعة وجماهيره كثيرة, وهو أول من نادى وطرح فكرة حرية المرأة من الأحزاب الوطنية بالعراق وله تاريخ وباع طويل في هذا وله شهيدات بالعشرات وقد اصبحن الآن بالمئات , كما أن إعلان الأمم المتحدة عام 1975 بتسميته عاما عالميا للمرأة , في ذلك العام تفتحت أمامنا أفكارا كثيرة ساعدتنا على التمرد على البالي والمهتريء من الأفكار التي تحط من شأن المرأة , وأعطتنا دفعا من الثقة بقضية المرأة وحتمية الانتصار لها وذلك من خلال الحملة التي قمنا بها كرابطيات أسوة بجميع المنظمات والحركات النسوية بالعالم , وقد كنت اعمل منذ أن كنت طالبة بالثانوية وكنت أقود فرع الرابطة في سوق الشيوخ, وقد ساهمت كل هذه الظروف على تعرفي على كتب وأفكار كثيرة لمناضلات عالميات مثل الكسندرا كولونتاي وروزا لوكسمبورغ وقرأنا لسيمون دو بوفوار وغيرها من رواد الفكر الحر عربيا وعالميا كما لا أنسى الرائدات العربيات اللواتي طرحن فكرة حرية المرأة كالمناضلة نوال السعداوي والكاتبة غادة السمان ومن الأحرار عالميا حيث كنا نقرأ الأدب الروسي والفرنسي والإنكليزي وعربيا نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وجبران خليل جبران وجورج حنة وسلامة موسى وتفتحت أمامنا زهور الحرية التي كنت أقسم أن اقطفها مهما طال الزمن .

 

ايها الشامخ دوما كنخيلك
ايها العالي الى يوم القيامة
ياعراق
انهم يأتون بالأغراب
أفواجا ً ورعبا
أحرقوا التأريخ والإرث العتيق
واستباحوا حمورابي
ومسلات ٍ عريقة
فسلاما للقباب الصامتات
وسلاما للتراب
وسلاما للحمائم فوق أضرحة,
ملائكة تنام
(من قصيدة : شامخ حتى بحزنك ياعراق)

من سوق الشيوخ إلى لاهاي ، طريق طويل بالتأكيد تخللته مطبات كثيرة وكبيرة، وإذ تستقر بلقيس حميد حسن في المدينة التي ارتبط أسمها بمبدأ العدالة الدولية تاركتاً ذكريات الارتباط الوطني بالمدينة الأم، ترى كيف كانت الرحلة؟ وكيف تجاوزت بلقيس كل التعرجات والمطبات التي واجهتها عبر رحلتها الطويلة؟

 

الرحلة لم تكن مخطط لها ولم تكن عفوية أيضا , كانت اختيارا دخلت به ظروف عديدة , لأننا كنا نعيش بسوريا وهي بلد مواجهة مهما استقر فلم يستقر بالمطلق , ونحن ضيوف على البلد ولا ندري متى ستكون ضيافتنا ثقيلة , كل شيء بالبلدان العربية قلق , غير مضمون , لذا كان العراقيون يرحلون بحثا عن أمان بعد أن مرت علينا سنين يأس من سقوط النظام , كنا ننتظر منذ عام 1979 ونحن نقول أن النظام آيل للسقوط , كنا نعيش بشقق مفروشة في لبنان قبل اجتياحها من قبل الإسرائيليين ورحيلنا إلى سوريا , انتظرنا عاما وعشرة أعوام وخمسة عشر والنظام كان رغم حرب تحرير الكويت, ورغم الدمار الهائل الذي تعرض له العراق , ورغم انتفاضة الشعب الباسلة والتي ذهب بها أخي شهيدا مع عشرات الآلاف من ابناء العراق دفاعا عن الحق ورغبة في تعديل ميزان الحياة , لكن النظام باق, استشهد من استشهد وقبر من قبر , ودمر ما دمر , وبقي الميزان الأعوج , وصعد صدام ليطلق رصاصات ابتهاجا بالنصر, والنصر عنده هو بقاءه بكرسي الحكم وقبره للملايين من العراقيين الشرفاء , بعد أن ساعدته القوات الأمريكية آنذاك خوفا من ثورة الجماهير الغاضبة , المقهورة , وكانت المقابر الجماعية , وصرخات الموت تتناثر في أرجاء العراق من شماله حتى جنوبه , وكان اليأس قد تمكن منا بعض الشيء أو على الأقل قد أبعدنا لنبحث عن مستقر آمن للصغار , فجاءت فكرة الرحيل إلى دول اللجوء بأوروبا, أما لماذا هولندا فلأنني سمعت أن المناخ بها اكثر دفئا من بقية بلدان أوروبا – وهذا ما لم أشعر به ولم ألمسه , يعني احسن بقليل من السويد والنرويج , وكنت أظنه اقرب إلى أجواء البلدان العربية , ثم أن هولندا تقع جغرافيا بقلب أوروبا فهي قريبة على فرنسا وألمانيا وإنكلترا وبلجيكا مما يغري بالسكن بها , إضافة إلى أن هناك معارف عكسوا لي سهولة الحصول على الإقامة , لكنني لم أجدها سهلة أبدا فالإجراءات كانت تتغير بين فترة وأخرى نحو ألا سوء بقدر تدفق اللاجئين وقد صادف مجيء حرب البلقان ومآسي البوسنا والهرسك والإرهاب بالجزائر ومشاكل الجوع بالصومال وغيرها مما عقد علي عملية الحصول على الإقامة. لكنني حينما وصلت إلى هولندا وهي البلد الأوروبي الأول الذي أراه بحياتي لأبقى به, كنت لمدة شهر لا أستطيع الطعام والشراب والراحة , لأنني رأيت الفرق بين بلداننا وهذه البلدان , بين حياتنا البائسة التي تعيشها شعوبنا التي تغرق أراضيها بالبترول والنخيل والزيتون والكروم والأسماك , وبين بلد لا يملك اكثر من الورود وبعض الصادرات الصناعية , كنت أتحرق على شعوبنا وابكي لأنني أرى كيف أن الأوروبيين نظموا حياتهم وطرقاتها ومفاصل يومهم , رأيت كل شيء نظيف ومرتب وكل واحد يعرف حده وحقوق الآخرين , رأيت أشياء كنت احلم بها منذ الطفولة أن تكون ببلادي , مما زاد حنقي وغضبي اكثر على الحكومات الديكتاتورية التي تمتص دماء شعوبها وتدخلها بدوامات الذل والبحث عن الحياة مع الغرباء , كنت ابكي والهولنديون يحاولون مساعدتي على الابتسام , كنت اقطع الطعام ويخشون أن يكون إضرابا وهم السبب , كانت الأسئلة برأسي تدق علي ليل نهار وتحرمني من النوم , ترى هؤلاء الحكام ألم يروا الحياة بأوروبا ليقلدوها على الأقل من أجل أوطان أكثر سعادة ومن أجل أن يكون حكمهم أكثر رسوخا , ولكي يكونوا كحد أدنى محبوبين لدى الشعوب ؟لقد كانت الأيام الأولى من أصعب مامر علي بحياتي , كنت لم استطع القبول بحياة في مجمع كبير يضم أنواع البشر جميعها من مختلف الشعوب , بعضهم المضطهد حقا والجائع وصاحب الرأي والبعض مدع ومجرم وسارق , كل الأجناس والألوان , صعب أن يتم صهرها ببوتقة واحدة في مجمع سكني يأكلون معا نفس الطعام والشراب , كنت أشعر بأنني رقما لا يساوي شيئا وأبكي , أشعر أن هذا التجمع يعامل كأغنام يعلف عليهم دون هدف , وبلا عمل , لكنهم عرفوا أنني مثقفة ولدي مواهب أدبية فأعطوني بعد أربعة اشهر مفتاح مكتبة المركز الذي نعيش به وصرت افتح المكتبة على مسئوليتي ويستعير الآخرون منها كتبا والعاب مكتبية , فكنت التهم الكتب التهاما وقرأت كل الكتب العربية الموجودة في مكتبة المدينة إضافة إلى مكتبة المركز , لأنني كنت بلا عمل كنت قد قرأت الكتب حتى الرديئة التي كنت لا اقرأها عندما كنت بالبلدان العربية , فعندي وقت لا أدر ما لذي اعمله به , وتذكرت نصيحة لوالدي عندما أوصانا أن نقرأ ونقرأ كل ما يسهل وصوله لنا, كنت أقرأ وأنتظر, أنتظر, وأنتظر ماذا؟ أن نحصل على الإقامة , ثم ماذا عن المستقبل؟ لاشيء وكل شيء مجهول .
كانت فترة عصيبة , وانتظار ممل حتى أن البعض من الناس ينهار ويمرض نفسيا أو يحاول الإنتحار .

 

هلموا أحبائنا كي نعود
لنا, كل هذا الوطن المستباح
لنا, كل هذي الجراح
تعالوا نقبـّل وجه الفرات
ونشرب دجلة حتى الثمالة
نشرب ُ
نسكرُ
لا نستفيقْ
تعالوا لنخترع اليوم حبا ً جديدا
لنرسم بغدادنا
مثلما نشتهيها
تعالوا للون ٍ العراق
الموشّى بوشم اللغات
وورد العقائد
نجترح المستحيلا…..
(من قصيدة :نعود)

 

عانت المرأة العراقية الكثير عبر التاريخ، فمن التقاليد الصارمة إلى التقيد الديني والعائلي، مروراً بكوارث السياسة البلهاء للذين تعاقبوا على سرقة مواقع القرار العراقي عبر زمن طويل. بلقيس الداعية لتحرير المرأة ، لا بد وأن يكون لها تصور وتوقع لحالة المرأة العراقية في المستقبل القريب على الأقل؟

 

بنظرة متفائلة أرى اليوم مستقبل المرأة العراقية التي مرت بظروف لم ترها امرأة بالتأريخ , أقول هذا ليس مبالغة , وليس لأنني امرأة عراقية , لكننا لنعود ونقرأ تأريخ الشعوب ونرى , كم من ديكتاتور فاق نظام صدام بالممنوعات من أمور الحياة العادية التي يحتاجها البشر كحرية الكلمة والتنقل والتجمع والدراسة والعمل والتظاهر وكل الحقوق المشروعة للإنسان بكل اللوائح والقوانين الدولية التي شرعتها البشرية؟ لا أعتقد أننا نجد في التأريخ القديم ولا الحديث زمنا أغبرا مر على شعب من الشعوب فاق نظام صدام , فكل الحقوق البشرية نراها مرتبكة وممنوعة وقلقة بالعراق زمن صدام , وكم ديكتاتور فاق نظام صدام بابتداع أنواع القتل والقهر والدمار ,؟ كم امرأة بالتاريخ قتلت وعلق رأسها بباب منزلها كما فعل نظام صدام مع 58 إمراة متهما إياهن ولمجرد اتهام , بلا تحقيق أو محاكمة معتبرا إياهن خارجات عن المعتاد من الأخلاق؟ كم امرأة بالتأريخ عذب رضيعها أمام عينيها ليموت تحت التعذيب؟ , كما فعل نظام صدام بمئات النساء العراقيات , وكم امرأة قطعت أوصالها ورأت بأم عينها أهلها وأحباءها يفرمون بماكينة الفرم أو ترمى أجسادهم للكلاب والوحوش حتى تنتهي , ؟ أي رعب بتأريخ البشرية أشد من رعب نظام صدام ؟ وأي بلد في هذا الزمن يكون به 35 مادة من مواد القانون الجنائي تنص على عقوبة الإعدام كالعراق سابقا؟ , إضافة ألي الاعدامات بالجملة التي تغنى بها أبطال حزب البعث وتفننوا بها لاهين ضاحكين حين يرسلون أبناء الناس إلى الموت بأحذيتهم رفسا تحت الأقدام , إن ما تعرضت له المرأة العراقية من قهر وضياع للحقوق لم نجده سوى بالأساطير والخرافات غير المؤرخة والتي هي من صنع الخوف والخيال فقط , لقد كان نصيب المرأة العراقية والرجل طبعا العراقي من القهر والعذاب طوال حكم نظام البعث المرعب بالعراق ما لا يقاس مع أية حقبة سوداء بتأريخ شعب من الشعوب, لذا يعلمنا قانون الطبيعة بأنه مهما مرت فترات يسيطر بها الأقوى على كل المقدرات , لكن دورة الحياة لابد وأن تقضي عليه ليكون البقاء للأصلح ولتستمر الحياة وليتكاثر الناس بهذه الأرض. كل هذا شكل رغبة قوية لدى المرأة العراقية للتحدي والاستمرار بالعطاء والحياة, اليوم المرأة العراقية عطشى للمساهمة الفعالة للحياة والنهوض بمجتمعها اسوة بالرجل , عطشى لابتسامات اطفال هدهم المرض والجوع , المرأة العراقية اليوم تمسح دموعها متذكرة ابن استشهد او أخ او اب او زوج , وتبتسم متفائلة لحياة أكثر اشراقا , إذ لاتوجد عراقية لم تجرح ولم تذق طعم المرارة بسنين العذاب الطويلة , المراة العراقية اليوم تيارا من العطاء والتحدي وكسر القيود , المرأة العراقية قادمة لتحرر ليس فقط نفسها بل لتشع على اخواتها , على كل النساء المقهورات والمقموعات , لتقول حكمتها بعد الهول الذي رأت وعاشت وتحرقت به , إنها تنهض من القبور لتبني وتنشد الشعر , وتقول للعالم ها أنا ذي قادمة أفسحوا الطريق وانحنوا أجلالا لعطائي.

 

إجلس من فضلك
يكفيك دوران الأرض
لتسقط َ
بين سنين القهر
يكفيك
شريانا للنزف
يبكي وطنا في الأعماق
إسند رأسك واحلم
فالحلم هنا مسموح ولغتك ممنوعة
(مقطع من قصيدة : دائرة أحزان)

انك امضيتي عمرا لابأس به في الغربه بعيدا عن الوطن مامدى قرب شعرك من الوطن؟

 

تسعون بالمئة من أشعار ي كانت للوطن , رغم غيابي الطويل الذي بلغ ربع قرن كانت روحي تعيش بأرضي , بمدينتي , كل يوم كنت أتمشى بين النخيل باحثة عن سر جديد اكتب عنه شعرا وأحلم بالعودة له , أغلب أحلامي حتى الان هناك مع صديقاتي بالثانوية , مع اخوتي وأهلي , شيء ما بداخلي يرفض الحياة بعيدة ليسحبني الى هناك , دائما كنت أردد اسماء الناس واستعيد بذاكرتي تصفيف بيوت سوق الشيوخ بأسماء اهلها حتى لاأنسى ولا تطوي الغربة ذاكرتي لأحب بقعة بالأرض ,كنت عندما التقي قليلا مع اناس من سكان المدينة وهم كثر متناثرون في اصقاع الارض ومنافيها نجلس لنتذكر شخصيات المدينة ونتتبع بيوتها , ونعملها لعبة وحزورة , كأن نقول تتبع البيوت من بتنا الى مدرسة الاسماعيلية ؟ كل سكان هاذه المدينة مرتبطين بها بشكل عميق أكثر من أن تكون مجرد مدينة ووطن , كانت مدرسة للأدب والسياسة والحب والجمال , كان الوطن يختصر أحيانا بها , أتذكر عندما كنت صغيرة , أصعد الى السطح لأرى بيوت المدينة على شكل دائرة بيوت اراها كثيرة بالنسبة لصغر سني , كنت اعتقد بأنه عند حدود هذه الدائرة ينتهي العالم , أول ديوان لي هو اغتراب الطائر كان كله تقريبا يحكي الحنين الى الوطن , ثم مخاض مريم ايضا فيه كثير من تسليط الضوء على عذابات الانسان والمراة والوطن , فالوطن حاضرا في شعري وروحي , اين اذهب لامفر لي منه وهو عشقي الأول والأخير

 

تومئ لوحدتي أن اتبعيني
رجلٌ من عسل أنتَ
كيف لي ـ وأنا النخلة ـ التوقف عن الدوران من حولك؟.
تومئ لروحي بالحب
رجلٌ من عسل أنتَ
كيف لي ـ وأنا الغارقة بالحرمان ـ التوقف عن الجري وراء ظلك؟.
تومئ لشفتيّ بقبلة
رجلٌ من عسل أنتَ
كيف لي ـ وأنا الحالمة بجناحين ـ التوقف عن الرحيل إلى
حيث تزقزق العصافير؟.
تومئ لعينيّ بارتعاشة رمشٍ
رجلٌ من عسل أنتَ
(من قصيدة: رجل من عسل)

 

ماذا أضافت الغربة لبلقيس حميد، وماذا أخذت منها؟ ومن خلال رحلتك الشاقة والمملوءه بمعاناة الغربه هل شعرت بأنك سعيدة بما حققته الى الان؟

 

الغربة وحش حقيقي و لكنك إن روضته نفعك وإن أهملته أكلك , لقد أضافت الغربة لي الكثير حيث درست في كلية الحقوق جامعة دمشق , وعشت مع شعوب أخرى مثلا مع الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والهولنديين وأحببتهم وكانت علاقاتي دائما طيبة, وحميمية , تعلمت الكثير من الشعوب التي عايشتها , وبصراحة أنني شعرت أن شخصيتي تبلورت في سوريا اذ عشت بها مايقارب 12 عاما وقد تأثرت بالشعب السوري كثيرا لطيبته ومسالمته وحبه للصديق والجار ولعاطفيته أيضا , ولازلت أحتفظ بعلاقات طيبة مع صديقاتي وأنا س اصبحوا لي بالغربة أهل , كنت حينما أبكي على أهلي يبكون معي وحينما أبكي العراق بالحرب لايتركونني ويبكون وكأنهم أهلي فعلا , لاأنسى بعض المواقف النبيلة التي واجهتني من شعب سوريا الطيبة , تصور ان مرة أثناء حرب تحرير الكويت وقد كنت ابكي ليل نهار , وأدرس بالجامعة , أخذت تاكسي متجهة للامتحان باكية رأني السائق وهو رجل كبير السن فسألني مابك يابنتي هل تأخرت عن الأمتحان لأنني كنت أرتدي الزي الجامعي , قلت له ابكي على العراق انا عراقية , فإذ به تنزل دموعه معي ويصر على عدم أخذ الأجرة مني ويبدي استعدادا لأن يأتي كل يوم لينقلني الى الجامعة طوال ايام الامتحان , ها اعتبره مااعطتنيه الغربة أعطني اهلا في سوريا وأهلا في لبنان وأهلا حتى بهولندا , لكن مااخذته مني الكثير , أخذت مني أنني غير مقروءة على صعيد الوطن , الان وبعد سقوط النظام بدأ العراقيون بقراءتي ولو على صفحات الجرائد والمواقع الالكترونية , دواويني لم تقرأ حتى الان بالعراق, صمت فترة طويلة , كنت أكتب وأبكي , اكتب وامزق , اكتب وأرسل للنشر باسماء مستعارة , أن تكون معروفا ببلد آخر ومجهولا في وطنك وبين أهلك وأحبتك , مجهولا لدى من أضعت عمرك من أجل هدف نبيل يهدف لسعادتهم وحريتهم وحقوقهم المهدورة على كل الصعد , هذا هو الموت البطيء بعينه , أن يقرأني الغرباء ولاتقرأني أمي حتى تموت ولن أرها , ان يقرأني الغرباء ولاتقرأني أختي حينما أكتب عنها , هو القهر بعينه.

 

ماما

يمزّق ُ جرحك القلب الكسير
ويقطع الأصوات
صوت الموت في أطرافك الشهداء

ماما

وأمك َ خلف َ أسوار ٍ
تنام وتحضن اسم الله
تسبح في رؤى الفقراء بعد الموت ,
تمسح حزنها عبر البرازخ في دجى الصمت
علي ّ
تركتك والصواريخ البغيضة تحرث ألأحياء

بني ّ,

لا تعتب عليًّ ,
فكل أهل الحي قد ناموا الى الأبد ِ
فلا ورد على قبر ٍ
ولا ورد بمستشفى..
ماما

يمص ّبإصبع مهزول دون الجوع ِ كي يحيا
ويُلهي البؤس بعض الشيء,
يأتي الموت مجنونا
ليقطف كفّه ُ....ماما

ماما
وها , قد ّاحة تسقط !
ماما
على الأسمنت و ُزع حقّنا بالعيش
أحمر لا صدى
إلا رصاصات تبقّت
كل ما فيها
ينادي الكون
يا صمت القبور
ويا بقايا الناس
فلنسمع صدى الصرخة
مـا

مـــا

مــــا

الى علي ّ , الطفل العراقي, الذي فقد جميع أفراد أسرته الستة عشر, تحت القصف الأمريكي العدواني وا لهمجي , حيث قُطعت أطراف علي ّ , الذي يسأل عن سبب عدم زيارة أمه له بالمسشفى

كشاعرة عراقيه هل تشعرين بان هناك غبن تجاه الشاعره مقابل الشاعر من جمهور المتلقين أو القراءفي الوطن العربي؟ بشكل عام هل بنظرك هناك غبن للشاعر العراقي مقابل شعراء الوطن العربي من ناحية تسليط الاضواء والاهتمام؟

 

نعم للأسف هناك غبن كبير واقع على شعراء العراق ليس النساء فقط إنما الرجال والنساء على حد سواء , لأن الظروف السياسية التي مر بها العراق لم تكن طبيعية لتحتضن الأدب والفن بشكل صحيح , أي بلد يمر بقمع الحرية الفكرية , والقسر بالانتماء لحزب حاكم , وقياس جودة الشعر والأدب على أساس قصيدة المدح للقائد الضرورة الفذ الواحد الأحد و لابد وأن يدمر روح الشعر ويدمر النظرة التلقائية السليمة للحياة والحب , والشعر حبا , فعندما يشيع الكره والعداوة والظلم تنحسر المشاعر الحقيقية وتسافر إلى الظلمة والمنافي وتظهر على الساحة العراقية شعرا ذليلا يمجد القوة فقط ويجاريها كأشعار الفترة المظلمة ولايوجد ظلام أكثر من عهد صدام , هذا بالنسبة لمعاناة شعراء الداخل أما نحن في الخارج , فقد برز وأبدع الكثير من شعراء وشاعرات أحرار , لكنك مهما كتبت ومهما كنت متميزا فليس هناك مؤسسات تدعمك أو تسلط عليك الضوء كابن الوطن ومن صلب الأرض التي تنتمي أليها , لأنك لست بوطنك وأنت غريب مهما كنت , حتى وان يحتفون بك - ومااكثر مااحتفى بي الهولنديون- لكن سينفض كل شيء وتبقى بالآخر غريبا ووحيدا , عاريا من الوطن الذي أنت منه وأليه , الوطن الذي يحتضنك بأهلك وأناسك والمشتركين معك بالكثير من القواسم والحيوات والمفاهيم . أما بالنسبة للمرأة الشاعرة حتما هي تعاني أكثر من الرجل فالنظرة للمرأة بالعراق تراجعت وعهد صدام قد شطب بقوانين وأعراف جائرة على نضال سنين طويلة للمرأة العراقية والإبداع ومنه الشعر كان أول الضحايا لهذا الفعل المتخلف , وبالعنف وإشاعة النظرة الحريمية للمرأة وعسكرة المجتمع وأشغال الناس بحروب طويلة غير منتهية , وانشغال المرأة بلملة أوصال عائلتها المقطعة وغذاء طفلها الجائع جعل الشعر ترفا والشعب الجائع المقهور يريد الحياة والخبز , فتراجع الشعر عند المرأة العراقية وربما اقتصر ببعض المناطق على قصائد الندب على الموتى والقتلى لكثرتهم , وقد قمن به النسوة الملالي او الندابات حتى لنرى أن الأغاني العراقية تأثرت بلحن وبكائيات قصائد هؤلاء النسوة, أو نرى شعر المدح للطاغية وأفعاله وحروبه وقد شاعت بشكل مقرف من قبل بعض شاعرات وشعراء الذل وكسب الشهرة ورغيف الخبز المغمس بالخوف والمهانة.

 

هكذا الشمس بأرضي
فهي في موطن أجدادي أقوى
هي أقرب لفؤادي هي أكبر
قد تقولون غريبا ذلك اللون الترابي الأصيل
فهو حين مثل لون البحر أو لون الصدأ
أو هو القمح حياة وعطاءا
وهو حين مثل لون الحب في الهند عميق وحزين
كيفما كنت ومن أين أجيء
جئت من أمريكا
أفريقيا السوداء أو أي مكان
كان أغنى كان أفقر
كان أكبر كان أصغر
أنا انتم
ودمانا كلها لون وحيد
دم إنسان ولون الدم أحمر
دم إنسان ولون الدم أحمر
(من قصيدة: لا تلوموني فلوني هو أسمر(

لطالما عانى المثقفون خاصة في مثل ظروف المثقفين العراقيين من الاغتراب ومن الشعور بالوحدة ومن انهيار الأحلام، فأين بلقيس حميد من هذا، وهل تعتبر نفسها متفائلة أم متشائمة؟

 

كل إنسان مهما كان قويا لابد وأن يضعف في يوم ما , عندما أرى الضحايا على شاشات التلفزيون في الحروب أبكي , عندما فارقت أهلي ربع قرن ومات بعضهم واستشهد دون أن أراهم , ابكي , عندما يسألني أبني عن جدته أو خاله أو عمه وهو يسمع ابن الجار يقول فرحا جاءت جدتي أو جاء عمي أو خالي , ابكي واضعف لساعات لكنني أعود لنفسي وأعرف إن للمباديء وللشرف ثمنا لابد وان يدفع , للأسف هذا هو منطق الزمن المليء بالظلم والديكتاتوريات , ولابد أن يتغير الزمن ليكون ثمن المبادئ والشرف مكافئات وأفراح وتميز واحتفاء, لا أن يدفع ثمنها ألما ومنفى وحرمانات ودموع, وأنا كناشطة في مجال حقوق الإنسان ليس أمامي سوى التفاؤل لأنني مؤمنة تماما بكل حقوق البشر بالحياة والمساواة وغيرها من الحقوق التي أقرتها الشرائع والأعراف الدولية والمبادئ الإنسانية وبالتالي مؤمنة من حتمية السعادة للإنسان بكل بقاع الأرض وأولها الوطن , ولابد من العمل لتحقيق ذلك الهدف مهما يكن الشر الذي يقف ضد هذا الهدف خبيثا وقويا.

 

شم ّ ُ العرانينِ في سوق الشيوخ

وقد علمتموني حروف َ الخط ِ

بالكتب ِ

ألا سمحتم لبنت ٍ قلبها تـَعب ٌ

أن تركع َ اليوم فوق الطين ِ

والعتب ِ

قد باعدتنا رياح ِ الظلم ِفاحتشدت

في القلب ِ حسرة أشواق ٍ

وفيض نبي

ألا سمحتم لبنت ٍ هدها زمن ٌ

من المنافي وأعوام من اللغب ِ 

أن تنحني عند شط السوق ِ باكية

وتذكر الأهل َ والأخوان َ

والتـُرب ِ

يا بلدة الشعر والحب ِ القديم ألا

سقيا لأيام ماضينا

على تعب ِ

روحي تهاوت على سعفات ِ نخلكم ُ

وهزّت القلب أعذاق ٌ

من الرطب ِ

اليوم, اليوم , حلّ القلب عقدته

وهام َ من فرح ِ اللقيا

على طرب ِ

اليوم يقرب لقياكم وها أنا ذي

اعد للدمع إحداقي بأرض أبي

* سوق الشيوخ مدينتي, المدينة الجنوبية التابعة لمحافظة الناصرية والتي ولدت بها وترعرعت وكنت أردت قبل أيام زيارتها, أعددت القصيدة للعودة والبكاء الفعلي على شطها , لكن استوقفني ما حل بها من رعب على يد المخربين الجدد

 

عشية الحرب على العراق نشأت وجهتا نظر الأولى معادية لأمريكا بالمطلق، والثانية رأت في الحرب نهاية للفاشية وبداية لزمن عراقي جديد، فأين وقفت بلقيس من هذا الموقف، وهل غيرت الأيام – بعد أكثر من عام من الاحتلال – من موقفها؟

 

إن الوضع الاستثنائي الذي كان عليه العراق وطبيعة النظام الوحشية والغريبة عن سنن الكون المعروفة , وكما قلت أنه فاق كل الطغاة بتاريخ البشرية , كل هذا يجعله لا يمكن أن يزول بطريقة كما زال سواه من الطغاة , فهو استثنائيا , إذن لابد وأن ينتهي بطريقة وأسلوب استثنائي, إن الشعب العراقي لم يستكين وجرب كل أنواع المتمردات والانتفاضات ضد هذا الغول المتوحش الذي يأكل العراق , قطعة قطعة وأملا أملا , لكنهم رأوا أن هناك إرادة دولية تدعم الوحش فلابد من كسرها والاحتيال عليها وهذا ما حصل بالحرب للأسف والتي ما كنا نريدها ولا نتمناها لشعبنا الصابر , وكنت قد وقفت ضد الحرب , نعم لأنني مؤمنة بأن الحرب دمار هائل وشر لا يمكن أن ينتهي إلا بشر أكبر , مؤمنة أن الحرب لا تعرف المنطق ولا تعرف أن تكون عملية جراحية كما يشاع عنها, اعرف أن الحرب تعني قتلى ومقطعي أوصال , أيتام وأرامل وثكالى , الحرب فقر وفوضى وتشرد وقهر مرعب, لقد وقفت ضد الحرب وساهمت بتنظيم التظاهرات والندوات والأشعار والمقالات , لكنني مع هذا أعلم أن نظام صدام كعادته يحرج معارضيه لشدة خبثه وغدره فيفتك غالقا كل أبواب النجاة على الضحية , وهذا الذي حصل وقد اتفقت أطرافا مع قوى أمريكية وغربية على الحرب ولتسقط الصنم , الوحش, لقد كانت محنة ومرت , كما تمر محن كثيرة يومية في زمن الطاغية , دون أن يستطيع الضحايا حتى الصراخ وندب الشهداء , وبعد الحرب , حيث انكشفت أمامي جرائم النظام بكل هولها الذي لا يتخيله المرء, ورأيت المقابر الجماعية وسمعت أعداد القتلى وانكشفت أمامي عذابات ومعاناة كانت مستترة عنا وكنا نجهلها , عرفت أن الطاغية لا يمكن أن يسقط بأيد عراقية وعرفت انه لولا هذه الحرب التي وقفنا ضدها سوف لن يسقط صدام وسيخلف أبناء أبناءه وسيستمر نزيف الدم العراقي الى ما لا ندري وستتكسر كل الأماني وكل الآمال , علينا اليوم تضميد الجراح وتنظيف المكان مما علق به من أمراض, علينا إنهاء الاحتلال بطرق سياسية تضمن للعراق السيادة الكاملة الحقة , والقضاء على الفايروسات وأشباح الجريمة المتربصين بكل خير وبكل وردة ونخلة , وعلى أبناء العراق بناء هذا الوطن الذي ليس لنا سواه ولنعيش به إسوة ببني البشر الذين يملكون أوطانا يحبونها وينتمون لها.