نافذة

المرأة ...مقتولة إن عشقت ومنبوذة إن اختارت ومجرمة إن تمردت!..لقاء جريدة الحياة Print

بلقيس حميد حسن: الممنوعات و القيود على المثقف السعودي أكثر مما يجب!
الثلاثاء, الحياة  25 يناير 2011
لاهاي – خالد الباتلي

عندما تريد الأنثى أن تخرج عن القوالب المصطنعة، يكون الشعر خير وسيلة لها. بلقيس حسن عراقية ارتشفت الشعر من المهد والنشأة، وكان شعرها رحمة لها ووبالاً عليها في الوقت نفسه، مواقفها السياسية جعلتها تغادر وطنها مبكراً، وذهبت لأكثر من دولة عربية، حتى أُجبرت على اختيار هولندا وطناً لها وعلى رغم كل الحياة الرغيدة والآمنة التي تعيشها في هولندا، إلا أنها تشتاق لعذابات وطنها. نصرت المرأة بحرفها وحراكها، وحاولت رفع الضيم عنها، لذا اختيرت ضمن أفضل شاعرات العالم من منظمة العفو الدولية. تهتم بلقيس بالمشهد الثقافي السعودي، وترى فيه السبيل الوحيد لسبر أغوار المجتمع السعودي الذي تشفق عليه من كثرة الخصوصية المفروضة عليه. استقت من أسطورة بلقيس الجنون والإبداع، وانتهجت من نهجها الفخامة والعظمة... فإلى تفاصيل الحوار

> «بلقيس» هل منحك هذا الاسم طريق حياة؟

- قالوا قديماً: «لكل من اسمه نصيب» واسمي ارتبط بأذهان الناس وبذهني أنا أيضاً بالملكة بلقيس الساحرة الجمال، القوية، العاشقة، الديموقراطية، العادلة التي حيّرت بحكمتها وفطنتها جميع من عاداها كملكة، أحببت الملكة بلقيس وسيرتها كما أحببت أسمي الذي وضعني أمام مسؤولية كبيرة إزاءه. ثم جاء الراحل الكبير نزار قباني ليكتب عن زوجته بلقيس قصائد العشق، ما أحيا اهتمام الناس بالاسم أكثر، وهناك بعض الأصدقاء حالما يرونني يرددون على مسمعي قصائد العشق ببلقيس، أو يدعونني الملكة، ولي قريبة كلما تراني، تلقي عليَّ قصيدة نزار قباني أيقظتني بلقيس، وهذا زادني حباً لاسمي أكثر.

> بلقيس والملك سليمان والصرح الممرد من قوارير، ألا تستحق رواية من حرفك تحمل إسقاطات المشهد المضطرب حواليك؟

- كتب عن الملكة بلقيس الكثير، وشغل اسمها الناس، خصوصاً الباحثين والمهتمين ودوّخهم، كما ألهبت قصتها وجمالها خيال الشعراء وأذهان علماء التاريخ، وعلى رغم ذلك ما زالت كاللغز المحير، مثل الكثير من ألغاز الزمن الماضي التي صرنا نستمتع بحيرتنا بها كمن يبحث عن اللذة.

أما ان استعمل تاريخ العلاقة بين بلقيس وسليمان وربطها بالواقع واضطراب المشهد، فهذا يخيفني لأن بلقيس لم تكن إنسانة عادية، فقد كانت حياتها وألغازها بين الأسطورة والواقع، قيل هي من نسب الجن من ناحية أمها، وقالوا عنها شيطانة الجنس، وعلى رغم كثرة من كتب وبحث في قصتها، إلا أنهم لم يجلوا أو يفكوا لغزها، بل زادوه غموضاً أكثر، وزادوا الناس رغبة في معرفة من تكون تلك المرأة، وما المعنى الدقيق لاسمها الذي تعددت معانيه.

> ماذا يعني أن تنشأ في بيت قصيدة وتحت ظل شاعر؟

- يعني أن تجد نفسك لا تشبه الآخرين في كثير من الصفات، يستغرقك الشعر ويحلق بك في عوالمه، تعشقه فيرتقي بك تارة نحو النجوم ويقذفك إلى الوديان تارة أخرى. تعني أن يكون مفهومك للحب أعمق وأكثر رهافة، ومفهومك للحياة بسيطاً لكنه معقد عند سواك. أن تنشأ في بيت قصيد يعني أن تعيش وأنت مسحور بالإيقاع الذي يقودك للشجن. يعني أن تجد نفسك شاعراً بالفطرة، حافظاً لما تسمعه أو تقرأه من الشعر أسرع من سواك، مجسداً المعاني بطريقة إلقاء المتمرس بموهبته، تتذوق الفن الأرقى، فتبتعد عن الهابط على رغم شعبيته الواسعة، وتجد نفسك أحياناً غير مفهوم لكثرة ما تحمله من عواطف.

الهجرة والمقاومة

> انتعلت الهجرة كيف كان الطريق من العراق إلى هولندا؟

- لم اختر الهجرة إنما فرضت عليَّ فرضاً، إذ كان الموت هو البديل الوحيد عنها. أما الطريق إلى هولندا فقصة طويلة كتبتها وسيقرأها الجميع حينما تنشر.

> المقاومة عشتيها ومارستيها، كيف تلتقي الأنوثة مع المقاومة؟

- لقد عملت في التوجيه المعنوي والشؤون الاجتماعية، وكنت أزور الجرحى وأرفع من معنوياتهم وأهتم بشؤونهم من مشكلات وحاجات، وأكتب عنهم تقارير إلى المختصين لتنفيذ مطالبهم، والشيء نفسه أعمل مع عوائل الشهداء والسجناء وأكتب عن ظروفهم، أي أنني عملت مع المقاومة الفلسطينية بكل ما يتناسب مع حقوق الإنسان والاعتناء بالضعفاء.

ولا اعتقد أن هذا يتعارض مع كوني امرأة. إنني لم أحمل سلاحاً يوماً أبداً، لكن هذا لا يعني أن من حملت السلاح من النساء أتت بجريمة، فالمقاومة الفلسطينية بموقف الدفاع عن النفس، والدفاع عن النفس عذر محل من العقوبة في كل الأديان والقوانين والمبادئ الإنسانية عبر التاريخ البشري، ثم إن الأنوثة جمال الروح، وهي القدرة على المحبة والعطاء وليس كمفهومها الخاطئ الذي شاع الآن وهو الاهتمام بالأصباغ والملابس الأنيقة الجذابة وعمليات التجميل فقط. الأنوثة الحقة هي أن تطفح مشاعر الأمومة والمحبة والنقاء الطفولي وتفيض على الآخرين، وأن تشعر المرأة بطفولة من حولها من الناس لتغدق من قلبها الأم عليهم فتكون حقا أنثى، عدا ذلك نكون أخرجنا كلمة الأنوثة من جوهرها.

> المقاومة الفلسطينية من سلبها عزتها وشرفها؟

- أسباب عدة أولها جهلنا نحن العرب، وتخلفنا في مقابل ما تمتلكه إسرائيل من مقومات العلم والتطور والقوة والقدرة على البناء والبقاء. وتشرذم قيادة المقاومة الفلسطينية وفشل وضعف بعض قادتها أنفسهم وانشغالهم بمراكزهم وصراعاتهم ولو على حساب القضية والشعب المشرد والمضطهد والمقتول يومياً، فهل رأيت إسرائيلياً واحداً يعيش في المقابر وصفيح التنك؟ لكنك تجد ذلك عادياً في الأراضي الفلسطينية وفي بعض الدول العربية، إن قادة إسرائيل ديموقراطيون مع شعبهم ومتحدون في قضيتهم.

في مقابل ذلك نجد أن قادة العرب تاجروا بالقضية الفلسطينية، وزايدوا على بعضهم بسياسات خاطئة، وأصبحت قضية فلسطين لديهم ورقة رابحة ضد شعوبهم المقموعة والمحرومة، ما جعل إسرائيل تمرر ما تريده من مخططات وتحقق ما لم تحلم به يوماً حتى صنعت المعجزة، نعم إنها صنعت المعجزة حين أسست من اللا حق أقوى دولة متحضرة في المنطقة تستحوذ على رضا الدول الكبرى وتبتزها وتضغط على اقتصاد العالم بكل الأساليب الشرعية وغير الشرعية، لكننا نحن العرب مع كل الحق الذي نملكه ومع كثرة العدد والثروات، لم نحقق شيئاً - مع الأسف - سوى الخسارات والاستمرار في العويل على الأنقاض.

> المدن وبلقيس... من كان يكتب الآخر أكثر؟

- المدن التي أسكنها تسكنني غالباً، فكم بكيت سوق الشيوخ وبغداد وبيروت ودمشق وحتى المدن الهولندية التي سكنتها أحببتها وما زلت أتواصل معها. ففي كل مدينة أعيش، أشعر بأن روحي سكنت فيها في شوارعها وأشجارها وأسواقها وأصوات عصافيرها وضجيج أطفالها وأناشيد مدارسها.

وكم أجد ما هو متشابه في كل العالم بين المدن، فأصوات الأطفال في المدارس هي نفسها وان اختلفت اللغات واللهجات، وهنا في شوارع لاهاي عندما أسير في شارع ما وأقترب من مدرسة أطفال بوقت الفرصة أسمع الأصوات ذاتها التي كنت أسمعها في طفولتي في العراق وذاتها في مدارس بيروت ودمشق، فالطفولة واحدة مهما كان الاختلاف، والمدن تشبه الطفولة والارتباط بها تلقائي أبيض إن لم يلوث بالكره ونكران الجميل، وأنا استغرب من البعض الذي يسكن في مكان ويأكل ويشرب منه ويستنشق هواءه ولا يحبه، لذا فقد يكون جوابي عكس ما رغبت، لأن إجابتي هي أن المدن تكتبني وتنحت في روحي صورها وكل خطوطها وتضاريسها.

> ما الفرق بين أن تكون الحياة مجرد «اغتراب الطائر»، أو أن تصبح «مخاض مريم»؟

- اغتراب الطائر هو بكائي وحنيني للوطن وإحساسي بالاغتراب، فأنا لم أشعر بالغربة في دمشق وبيروت بقدر ما شعرت بها في هولندا، على رغم أنني لم أشعر بالأمان في أية بقعة في الأرض حتى في العراق كما شعرت في هولندا، ما دفعني لأناضل بمجال حقوق الإنسان في كتاباتي واستشعر عذابات الآخرين، وبالأخص المرأة العربية المسلوبة الإرادة غالباً، فكان مخاض مريم الذي تناول هذه العذابات. فالإنسان عندما يتنفس هواء الأمان والحرية سيفكر في الآخر حتماً، لكنه حينما يكون محارباً، مسحوقاً، معذباً، سجيناً، بتقاليد وموروثات تثقل عاتقه ولا يعرف الخروج منها، حتماً سينصب تفكيره نحو إنقاذ نفسه مما هو فيه ويبقى يدور حولها، وهذه حال الإنسان العربي في أوطانه غالباً.

> القصائد عندما تغني «الوطن»، ماذا تعزفين؟

- آه، أعزف موسيقى الحب، فأنا أشعر بما أردده دائماً، وهو أن الحبَ وطن والوطنَ حب.

> من يجعل «الحب مبحوحاً من الكسل»؟

- اليأس والإحباط وانتظار من لا يجيء.

> «فاطفح بالحب حدّ البكاء» لماذا الدموع في عقيدة العشاق عبادة؟

- البكاء عصير الحزن، والحزن من أهم عناصر الشعر، فكما أن معادن التربة عنصر مهم لنمو النبات وحياته كذلك الحزن للشعر. البكاء نقاء للروح واقتراب من السماء وتشذيب للمشاعر. البكاء يقرب الإنسان من الملائكة، فالشعراء الحقيقيون وأهل البكاء الصادق هم ملائكة الأرض، وهذا يذكرني ببيتي شعر للعباس بن الأحنف أحببتهما وحفظتهما، إذ يقول:

ولما دعوتُ الصبر بعدك والبكا

أجاب البكا طوعاً ولم يجب الصبرُ

فإن ينقطع منكَ الرجاء فانه

سيبقى عليك الحزن ما بقيَ الدهرُ

فالشاعر عاشق دائماً، ومن دون الحزن والألم والبكاء، فالإنسان غير قادر على الفرح، كما قال الخالد جبران خليل جبران: على قدر ما يغوص الحزن في أعماقكم يزيد ما تستوعبون من فرح.

وأجدني كما قال جبران، فأنا ربما أكثر الناس بكاء وفرحاً. الشاعر ليس بالضرورة عاشقاً لإنسان، إنما قد يعشق أرضاً لذكرياته فيها أو يعشق أملاً يظنه جنته، أو جمالاً ما أو فكرة تؤرقه، وان لم يكن الشاعر عاشقاً، فمن أين يأتي بالقدرة على الشعر والبقاء في الحياة على رغم كل الشرور الموجودة على الأرض، ومن هذه الشرور للأسف هم من يمثل علينا دور الباكي بدموع التماسيح، فيجعل إيماني بالبكاء لعنة، فالعن سذاجتي حينما لا أميز بين دموع الصدق والزيف.

> هل العزلة مشروع قائم عند بلقيس؟

- كل إنسان بحاجة إلى عزلة لفترة من حياته والشاعر أو الكاتب يحتاج إلى العزلة أكثر من سواه لأن عمله مرتبط بالروح والعقل، ففي العزلة تأمل وعودة للذات واستنهاض للعقل والإبداع، والعزلة تقوي الروح الإنسانية وتصقلها لترتقي بالإنسان وتقربه من الجمال والطبيعة. العزلة تعلم الإنسان الحزن الشفاف الذي يرقق قلب المرء، فيشعر بالإشفاق على كل مخلوق على وجه الأرض بل حتى على ورقة شجر يابسة تسقط من أوراق الخريف. فمن دون العزلة تضيع بوصلة الإنسان بين أنواع البشر وأنماط الحياة في هذا الكون المتصارع والمجنون. وشيء من العزلة يجعل الإنسان قادراً أكثر على فهم الآخر والسبر في أغواره، فهي تقوي فراسة الإنسان، واعتقد أن التقاليد المغرقة بالقيود الاجتماعية التي تربط الفرد بالجماعة، وذوبان ذات الفرد في العائلة والعشيرة، وازدحام المدن العربية أحد أسباب تراجع الأخلاق وتضخم الأنا واللهاث وراء المال في بلداننا، فتصبح العزلة ضرورة وبالأخص للمبدع.

الابداع والظلم

> ما وجه القرابة بين الإبداع والظلم والقهر؟

- الإبداع غالباً وليد الظلم والقهر، وهو متنفس المظلومين، ورفيق درب المقهورين، وهذا يذكرني بقصة لعبة الصبر التي كانت أمي تقصها علينا في الطفولة، وهي أن فتاة مقهورة ويتيمة عاشت حياة كلها قهر واضطهاد، لكنها كانت كل يوم تلجأ إلى لعبتها وتسرد عليها أحداث يومها الطويل بطريقة قصصية وشعرية مرددة لازمة تخاطب بها لعبتها وتقول باللهجة العراقية: يلعيبة ِالصبري، صُبري على صَبري، أنتِ صبر وأنا صبر، يا هو الصبر صبري؟ وكل ما تشتكي الفتاة تنتفخ اللعبة، حتى جاء اليوم الذي انفجرت فيه اللعبة مما خزنته في داخلها وحملته من شكاوى الفتاة وهمومها. وهذه الرواية استوطنت ذاكرتي من دون علمي وقبل أيام اكتشفت أنني متأثرة بها، فعندي في مخاض مريم وفي قصيدة «تهاوين قبل الأوان» أقول:

فلا تشتكي

وسدّي نوافذ سرّك

أنت أنثى

عليك التصبّر والصبر والاصطبار

> العراقيون سياسيون في الأغلب، لماذا كل هذا الغرق في التعب؟

- السلطة صنو للظلم في بلداننا وعبر التاريخ العربي، فإن ينقسم الناس إلى متسلطين وعامة، فهذا في حد ذاته شكل من أشكال الظلم. فكيف بهذا الشعب وقد اجتمعت فيه مكونات قومية وطائفية وعرقية ودينية بقدر كبير كما هو في العراق، وكيف به وحكامه غالباً ليسوا على قلبه، ويذكرني هذا بقصيدة للرصافي يقول فيها:

من أين يرجى للعراق تقدم

وسبيل ممتلكيه غير سبيله؟

لا خير في وطن يكون السيف

عند جبانه والمال عند بخيله

وما أشبه الليلة بالبارحة إن التعب الذي تتحدث عنه هو الذي اصطفانا لنغرق فيه، فلا يوجد إنسان يركض مختاراً وراء التعب والسجن والاضطهاد.

> العراق الثقافي ألا تشعرين بأن السياسة أزهقت روحه؟

- نعم، اتفق معك تماماً، فالوجع السياسي العراقي طغى على كل الأوجاع واجتاح في طريقه الكثير مما يفتخر به المجتمع المدني من ثوابت تؤسس للبنية التحتية للإنسان، فوصلنا إلى مرحلة تسييس الثقافة وهذا خطر جداً، وهو ليس في العراق وحسب، بل ينسحب الآن على كل المجتمعات العربية، إذ تتسع الهوة بين الحاكم والمحكوم.

> تقولين قصائد ناعمة وتكتبين مقالات جارحة، كيف جمعت بين النقيضين؟

- الصراحة لا تتجزأ، وما افعله تناغماً وليس تناقضاً، فأنا صريحة في كل شيء، وحين أكتب عن الحب أكتب ما يعتلج بروحي وجسدي من ألم وحرمان وانهيارات تارة وفرح مطلق تارة أخرى، ولا أعرف الكتابة إلا هكذا، والشعر يأتيني دائماً في أوقات غير متوقعة لم أنتظرها وكذلك في المقالات، فأنا لا أجامل في قضية العدالة الاجتماعية والدفاع عن الإنسان، خصوصاً الشرائح الفقيرة أو المحرومة والمقهورة وأولها المرأة، كما أنني أحب أن أحاجج بكل طاقتي وإمكاناتي كل من يعتقد من السياسيين أنه أذكى من بقية أبناء الشعب ليستغلهم بالمال والسلطة، مستمرئاً دور الأقوى والأفضل عن طريق الدهاء والخداع.

> السياسة العربية هل تفسد الود بين المثقفين العرب؟

- للأسف نعم، ما زالت السياسة العربية تتحكم في علاقات المثقفين ومشاريعهم المشتركة، وأبرز مثال على قولي هو رفض اتحاد الأدباء العرب لعضوية اتحاد أدباء العراق بعد سقوط النظام السابق، وهذا أكبر دليل على أن المثقفين العرب لم يتحرروا من السيطرة السياسية وهذا مؤسف جداً، فالمثقف أهم من السياسي بكثير، وهو باني حضارة وأسس ومبادئ تتجذر ويتربى عليها أجيال.

المثقف يحفر ثوابت للآخرين جميعهم فقيرهم وغنيهم وبكل أنواع البشر، لكن السياسي غالباً ما يكون طارئاً ويبني أمجاداً شخصية، إن لم تكن له فلحزبه أو كتلته أو طائفته وعصبته، وندر من تخلى عن تلك الأمجاد من السياسيين وزهد ليقف في صف الشعب والفقراء والمظلومين. إذاً إن لم يتم العمل على فك هذا الرباط غير المقدس بين الثقافة والسياسة في العالم العربي، فستتردى الثقافة في مجتمعاتنا أكثر.

> هل الشعوب العربية ما زالت تزرع صوتاً وتجني ثرثرة؟

- نعم هم ما زالوا ظاهرة صوتية كما قال عنهم المفكر عبدالله القصيمي، وما زلنا شعوب كان وأخواتها مثلما قالها الممثلون الكويتيون في مسرحية باي باي لندن الشهيرة.

> عربياً الحرية حرف وكلمة وحبر لا شيء آخر... لماذا؟

- لأن التخلف والتعصب الديني والسياسات العرجاء أو الخائنة اجتمعت كلها فاعتقلت كلمة الحرية وما زالت حتى الآن في سجن الحرف والكلمة والحبر كما تفضلتم.

> المهجر يمنحنا والوطن يقسو علينا... هل هي المعادلة الصعبة؟

- للأسف نعم، إنها معادلة ليست صعبة فقط بل هي قاتلة، إذ يصبح الوطن الذي أنجبك وتعلقت به هو ذاته الذي يشهر سلاحه ضدك ويطاردك أينما تكون، والمهجر أو التراب الغريب عنك يحتضنك ويمسح دموعك، والمحير في الأمر هو أنك لو عشت في بلد كالجنان وعلى رغم كل ما كان، يبقى قلبك هناك، في أرضك الأولى مهما قست.

> الإرهاب والدين أم الإرهاب والسياسة السبب في ما نحن فيه؟

- الدين وحده من دون السياسة لا يخرب، وها هي أوروبا تمتلئ بالكنائس العامرة والمفتوحة التي تدر على فقراء العالم أكثر مما نتصور، لكن الدين السياسي هو الذي صنع الإرهاب وربطه بالدين، وأحالَ مهمة الدين النبيلة كما يفترض لها إلى رقابة وتدخل حتى بروح الإنسان وأحلامه وإلى قتل وتدمير وتحقيق رغبات شخصية مريضة لدى دعاة يمتطون الدين حجة لممارسة شهواتهم الإجرامية غير السوية.

الحراك الثقافي السعودي

> هل تغريك الكتابة السعودية بالقراءة؟ ولمن تقرئين؟

- نعم إنها تغريني لأن فيها ما هو مختلف عن بقية الدول العربية لظروفها الخاصة جداً، كما أنها تغريني لأنني قرأتها واكتشفت خصوصيتها في العقدين الأخيرين وليس منذ الطفولة كما هو بالنسبة للكتّاب العرب الآخرين ككتاب مصر ولبنان وسورية ودول المغرب العربي أو العراق، ما عدا كتب الراحل عبدالرحمن منيف الذي قرأت له قبل سواه من الكتّاب في السعودية، ربما لكونه عاش خارج السعودية وهو نصفه عراقي من الأم، فهو معروف لدينا كثيراً ومنذ زمن بعيد.

بعد ذلك قرأت لكتّاب كثر من السعودية منهم الدكتور الراحل غازي القصيبي وعبده خال وتركي الحمد وفهد المصبح وغيرهم الكثير الذين لا تحضرني أسماؤهم الآن، بعضهم نقاد مثل محمد العباس، كما قرأت للكاتبة زينب حفني التي التقيتها عام 2005 في ندوة دعينا لها في جامعة مراكش. كذلك قرأت لنورة الغامدي، وأحببت شعر علي الدميني كثيراً.

> المفردة السعودية هل تستطيع مغادرة السرب؟

- نعم إنها كذلك لخصوصية البلد وظروفها كما قلت.

> ما الذي يبطئ من انطلاقة المثقف السعودي؟

- كان الله في عون المثقف في السعودية، فالقيود والممنوعات تفشت أخيراً في عقليات الناس، وتسيدت على المشهد، حتى صار التعصب هو الأصل والتسامح هو الفرع، لقد تنوعت الضغوط الاجتماعية على حرية المثقف، ومن البديهي أن الثقافة تنتعش بالحرية وتتقلص بتقلصها.

> في مقالك عن رواية «ملامح» لماذا حاكمتِ القصة السعودية بسبب «أرض بيت الله العتيق»، ولم تنظري إلى البشر الذين يعيشون على الأرض؟

- لم أحاكمها على هذا الأساس، ومن الطبيعي أن البشر قد يخطئون في كل بقاع الأرض، إنما ركزت على المفارقة بين ما جاء في الرواية من صراحة الحديث عن السقوط في الرذيلة والأمراض الاجتماعية الخطرة، وبين قداسة وهيبة البيت العتيق القريب مما يحصل، حيث النساء جميعهن محجبات، والناس لا يتركون فروض الصلاة، والجوامع عامرة بالمصلين ليل نهار، والشريعة تُطبق بحذافيرها، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجوب الشوارع، والناس تحج بالملايين سنوياً.

أي أن ما يظهر لنا عبر كل الوسائل المرئية والمسموعة أن الناس هناك يلتزمون بالدين الحق إلى أقصى حد. وحينما تكشف لنا الكاتبة ما يحصل خلف الحيطان ندهش طبعا، فأين هذا من ذاك؟

>القصة الأدبية حين تكتب حالاً سعودية تقوم القيامة ولا تقعد، هل هناك انطباع بأن السعودية يجب أن تكون «المدينة الفاضلة»؟

- هذا السؤال يتعلق بما قبله، فالفرق بين ما يظهر لنا في السعودية من معرفة بالحلال والحرام، والالتزام التام بالشريعة، خصوصاً في القضايا الاجتماعية يعكس اختلافها وأفضليتها على المدن، وما يكتبه كتّابها من حقائق تصدم الناس، لتكون السعودية مثلها مثل أي بلد. وهذا ينطبق على كل المدن المقدسة، فالسامع والقارئ لا يتقبل ما يسمعه عن النجف وكربلاء مثلما يستغرب مما يكتب عن مكة مثلاً، لكنه لا يستغرب كثيراً إن كانت قصص الفساد عن بغداد والقاهرة وبيروت.

> اختارتك منظمة العفو مع خمس شاعرات عربيات ضمن أفضل 150 شاعرة في العالم ينشدن الحرية والحياة بلا ظلم، ماذا بعد هذا الاختيار؟

- سأعمل على أن أكون أهلاً لهذا الاختيار، وأبقى زاهدة بالكثير مما يغري سواي، وسأستمر في الكتابة، وستبقى المحبة وكلمة الحق المحور الأهم لكتاباتي.

> بين الكثير من الكتب تعيشين وبين أيدينا يعيش إنتاجك الكتابي بخجل... لماذا؟

- لم أفكر في النشر حينما أكتب، والشهرة ليست هدفي، بل أكتب لأنني لا أستطيع العيش من دون الكتابة، فهي تفرض نفسها عليَّ كما الحب، إضافة إلى أن لدي الكثير الذي لا أستطيع نشره، فعلى رغم إقامتي في هولندا، إلا أنني أكتب بلغتي الأم، والعرب غالباً لا يحبون أن يقرأوا ما يخالف أفكارهم أو ينتقدهم، لهذا أنا لا أنشر كل ما أكتب. هذا عدا أنني أحبطت في ما نشرته من كتب جاءت مليئة بالأخطاء المطبعية التي أبكتني، كما أنني أرى أن النشر الورقي الآن بعد انتشار النت ليس مهماً جداً، إضافة إلى أن المقياس بالشعر ليس بالكمية، فابن زريق البغدادي لم يكتب سوى يتيمته الوحيدة ومطلعها:

لا تعذليه فإن العذل يوجعه

قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه

لكنه كتبها بروحه التي فاضت بعد أن وضع القصيدة تحت وسادته، فخلدت وستبقى ما بقي إنسان يقرأ باللغة العربية. بينما هناك شعراء لديهم عشرات الدواوين لم يعرفهم أغلب القراء. كما أن كتابة المقالات شغلتني كثيراً، وهي غالباً ما تكون سياسية، وأكتبها إحساساً مني بضرورة الدفاع عن وطني وشعبي وعن القضايا الإنسانية عموماً. أحيانا أفكر في نشر المقالات حول المرأة بكتاب، والمقالات حول الوطن بكتاب آخر وغيره في حقوق الإنسان. هذا ليس كل شيء في إجابتي، فإضافة إلى ظروف الاغتراب ومسؤولياتي كأم، فأنا أقوم بكل الأعمال المنزلية وسواها من المواهب التي أحبها وأتقنها، فكثيراً ما أخيط ملابسي وستائر المنزل بنفسي أو أطرز وأحوك الصوف.

وقد تستغرب إن قلت لك إنني أقوم بحاجات المنزل كلها حتى النجارة والصباغة وتشطيبات المنزل وإصلاح ما يمكن إصلاحه بمتعة كبيرة، أي أعمل أدوار الرجل العامل والمرأة معاً، ربما هو تحد كبير يدفعني لعمل كل هذا، ولأثبت أن المرأة تستطيع المحافظة على أنوثتها على رغم تعلمها أشياء كثيرة ومتنوعة، وربما هي أفكار أبي التي سمعتها كثيراً، وهو أن المرء يملك كل الحواس التي تؤهله لتعلم كل شيء. وربما هي رغبة في الاعتماد على الذات، وربما هي الطاقة التي امتلكها أكبر من أن تستوعبها موهبة الكتابة وربما هي الحاجة وكما قيل الحاجة أم الاختراع.

كل هذا يأخذ الكثير من وقتي على حساب موهبتي الأدبية. وأنا لم أندم على هذا مطلقاً، بل تعلمت أشياء كثيرة قلما تستطيع امرأة واحدة القيام بها. فالإبداع ليس الكتابة فقط إنما هناك إبداع بأسلوب الحياة التي يعيشها الإنسان. وهناك شخصية نسائية لبنانية كانت في بداية الثمانينات تقدم في التلفزيون اللبناني برنامج الأسرة أو المرأة وتدعى ريموند أنككلو بولو.

هذه المرأة علمتني من خلال برنامجها كثيراً وأنا في بداية حياتي، وكانت أنثى وسيدة مجتمع بحق.

المرأة ...مقتولة إن عشقت ومنبوذة إن اختارت ومجرمة إن تمردت!

< في سؤال لضيفتنا حول : المرأة في الحياض العربي من يفسد قضيتها أكثر هي أم هم؟ تجيب بحرقة: «هم طبعاً، فهم القوامون عليها وأصحاب النفوذ وهم الضاربون لها في المضاجع، وهم المستشارون بخروجها من المنزل أو موتها فيه، المرأة العربية فرض عليها الجهل منذ مئات السنين، فهي المقتولة إن عشقت والمنبوذة إن اختارت، وهي المجرمة إن تمردت وناضلت خارجة على ظلمهم، هي العزلاء بإرادتهم هم، وهم المدججون بكل أنواع السلاح، هي الضلع القاصر، والعقل الناقص كما يدعون، وهي التي تحتاج محرماً يحرسها، وهم الذين يختارون لها لباسها ويحجبون عنها نور الله إن شاؤوا». وتضيف: « يعاملونها منذ الصغر بأدنى من أخيها ويفرضون عليها كيفية تفكيرها ليسلبوها الإرادة بتقاليد وموروثات اجتماعية ما أنزل الله بها من سلطان، ثم يدعون أنهاً هي التي تفسد قضيتها». وتقول في قصيدة لها: تجتمعون جميعاً لتخيطوا لي عباءة سوداء... عباءة تلفون بها بياضي.... وأعشق... ونسألها: هل الأنثى والتمرد صحبة أكثر من الرجل؟ وتجيب : «بالطبع، لان القيود على الأنثى مزدوجة فهي تحمل قيود الرجل وقيودها هي حيث تنوء التقاليد والأعراف والشرائع والأديان بالقيود والممنوعات التي تحكم المرأة بقسوة. وأعجب من امرأة  دارسة ومتعلمة ترضى بأن تعامل كنصف إنسان وليس إنساناً متكاملاً، من هنا فالمرأة التي لا تتمرد على قيودها امرأة غير حرة، خانعة لا ترتجي منها أن تربي أبناء يعرفون معنى الكرامة، والمساهمة في بناء حضارة حديثة تساير التطور الحالي». وتزيد : «إذا عدت للعصر الذهبي الذي عاشته المناطق العربية في التاريخ تقف فيه على شخصيات نسائية هائلة في عقولهن وحكمتهن، وتجد أنهن لعبن دور المؤثر الأول في دفع أبناء ذاك الزمن للبناء والتطور. واليوم للأسف يتراجع وضع المرأة العربية وتغرق في تقاليد البداوة والتخلف، فتصبح غير قادرة سوى على ما تكبل نفسها به من إكسسوارات ومودة وزينة وشكليات تعكس التفاهة التي تنقل للأبناء - مع الأسف - وهذا من أهم أسباب تقهقرنا إلى الخلف في حين يركض العالم إلى الأمام».

المقابلة في الحياة على الرابط التالي

http://ksa.daralhayat.com/ksaarticle/227249