نافذة

التنوع الثقافي والمتطرفون Print


التنوع الثقافي والمتطرفون

بلقيس حميد حسن


بعد مقالتي الموسومة بعنوان آل العراق واختلاف الأديان  وما تبعها من مقالات , جاءتني العديد من الرسائل التي يشد بعضها على يدي إذ أتحدث عن الوئام المقتول والسلام المذبوح على ارض كان اسمها دار السلام , وبعضها رسائل  مفخخة  بفايروسات مزعجة وتهديدات لا تستطيع بأي شكل إيقاف من يريد قول كلمة حق , أو بتعليق حاقد منهزم  تجاوز حدود الأدب المطلوب  في التحاور والكتابة وبأسماء مستعارة غالبا,  والغريب-  ولا غريب في زمن الغرائب- أن ما اكتبه  يغيض بعض متشددي الإسلام وان وصفوا أنفسهم بالاعتدال وبعدم التشدد  , وكل ما كتبته هو عن تآلف الشعب العراقي سابقا وما قبل حزب  البعث , مفرق الأحباب وجالب الموت والخراب,  الذي مزق نسيج الشعب وضرب قلب فسيفساءه وطعن الحب بين أفراده حتى صار المسلم يبيع المسيحي لعصابة تدفع له المال , ولازال مخربي هذا الحزب  يفعلون  ذلك متعاضدين مع قوى الشر ,  ليحققوا  مقولة قائدهم  الشهيرة بأن العراق بعد البعث لابد وان يكون  خرابا وترابا.                                
إن التآلف العراقي العجيب المختلف عن كل ما مرّ في المنطقة يعكس  إن هذا الشعب كان  يضمّ الجميع في وفاق وسلام،  بل أن الإبداع يكون في سموه في مثل هذا الجو من الحوار واحترام الآخر رأيا ومعتقدا، ولعلّي أؤكد هذا حين أذكر قول خلف بن المثنى : شهدنا عشرة في البصرة يجتمعون في مجلس لا يعرف مثلهم في الدنيا علماً ونباهة وهم : 1 - الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب النحو، وهو " سني " ، 2 - والحميري الشاعر، وهو " شيعي " ، 3 - وصالح بن عبد القدوس،" قيل عنه انه زنديق ثَنوي " ، 4 - وسفيان بن مجاشع، وهو " خارجي صُفري " ، 5 - وبشار بن برد، " قيل عنه انه شعوبي خليع ماجن " ، 6 - وحماد عجرد،  "قيل عنه انه زنديق شعوبي"، 7 - وابن رأس جالوت، وهو " يهودي"، 8 - وابن نظير المتكلم، وهو " نصراني "، 9 - وعمر ابن المؤيد، وهو " مجوسي " ، 10 - وابن سنان الحراني، وهو "صابئي ".
من هنا نرى إن شعبا يحوي تلا قحا ثقافيا ودينيا متنوعا كهذا, لا يمكن أن يحتمل التشدد , ولا يمكن أن يحتمل مذاهب تقوم بالذبح والسلب والاختطاف  حتى وان كانت إسلامية , فما يطرحه هؤلاء المتشددون من أن الغرب غرب  ويعني الكفر والإلحاد والانحلال , والذي يجب علينا أن لا نأخذ منه حتى الحقائق التاريخية الجليلة والتي تشيد بمجتمعاتنا  , وان لا نعتد حتى بمن كتب التأريخ منهم وتحدث كرحالة عن بلداننا ووصفها كما رآها , وبالجانب الآخر المضاد كما يدعون  أن الشرق شرق الأديان والتخلف وتحريم خروج المرأة لعالم السياسة والفلسفة والفن ولابد من بقائه هكذا لان الأصالة كما يفهمون هو الحفاظ على التقاليد والعادات , وان كانت غير عادلة وغير منطقية وغير متناسبة مع العصر الحالي , المتشددون يريدون لنا أن  نشك بالغرب دائما  وعلى أساس مبدأ المؤامرة  وبأنه مصدر خرائبنا, وأن نـُحرّر ونـُخرج كل من اعتدى على حقوقنا من عرب وإسلاميين من دائرة الأجرام ونلصقه بالغرب , وان كان هذا هو الحل الأسهل الذي لا يحتاج إلى كبير بحث وتمحيص لكنه  أمر يفضح تشددهم وتعصبهم الرافض للحضارة الإنسانية التي ننتمي أليها اليوم شئنا أم أبينا , إذ لا يمكن أن نقارن عطاء رجل دين يصمت عن الجرائم ضد البشرية أيا كان دينه وأيا كان حزبه ,  بعطاء  توماس  اديسون مخترع الكهرباء  هذا الاختراع  الذي  شع على البشرية جمعاء وسهل عليها الكثير الذي لا يـُعد ولا يحصى , والذي لولاها لما كتبوا وكتبنا وتخاطبنا اليوم عبر البريد الإلكتروني والانترنيت.
ولا ادر لماذا نقارن أنفسنا بالشعوب المتخلفة جدا لنقتنع بتخلفنا ولنبقي عليه ؟  فحينما ننتقد بعض مظاهر التخلف في مجتمعاتنا ,  أجد من  يقارننا  بالشعوب التي تهدر دماءها بالحراب وبالسيخ المحمي بالنار ولا نقارن أنفسنا بالشعوب المتحضرة التي ارتقت إلى اقتصاد مستقر وكرامة للإنسان وحقوقه التي  جعلت الملايين من الناس في الدول الإسلامية تلتجيء إليهم لتسكن لحياة الهدوء والاستقرار وحفظ ماء الوجه  هروبا من الظلم والطغيان أو الجوع والفاقة في بلداننا الإسلامية مع الأسف , وهل إن  الذين  التجئوا  إلى دول  أخرى رعبا من جور صدام أو أي ديكتاتور مسلم  آخر إلى بلد إسلامي كانت حياتهم كمن التجئوا  إلى بلد غربي من دول اللجوء من حيث الكرامة والحقوق التي اكتسبوها هم وابنائهم ؟ مالبعضنا  لا يقل  الحق ويميل عنه كل الميل بكلام يزيد الشعب ضياعا ومتاهة بدلا من أن يدله الطريق؟
يتحدث المتشددون عن مجتمع  الغرب والانحلال الأخلاقي المتفشي به كما يزعمون , ولا يتحدثون عن كرامة الإنسان وحقوقه واستقلاليته وحريته الشخصية  وعن الأمان والضمان   المكفول في هذه الدول , ولا يريدون لنا أن نتمثل تجربة الغرب بضمانات اجتماعية للناس حينما نطرحها لأن الغرب قد فعلها  حتى وان كانت مبدأ إنسانيا عظيما يضمن حياة هانئة للفرد ومن بعده أبناءه فلا يخش على نفسه من مرض واعاقة ولا يخش على أبناءه من فقر وتشرد.
إن مبدأ الضمان والتكافل الاجتماعي الذي ضمنته اغلب بلدان الغرب لأبنائها وأبنائنا اللاجئين لديها هو اكبر إنجاز في مجال استقرار النفس البشرية وانطلاقها نحو البناء والإبداع  والابتكار ,  يغفل الناس- مع الأسف-  في مجتمعاتنا  هذا المبدأ ولا يعرفونه  , انه يحقق للمرء هدوءا نفسيا وأخلاقا ثابتة وحرية بالرأي ويبعد عنه مرض الخوف والانتهازية والوقوع ببراثن الجريمة وإراقة ماء الوجه  لدوافع الحاجة أو بدافع  الخوف من المستقبل , فما بال رجال الدين ببلداننا الإسلامية لا يفتون بهذا المبدأ  ويطالبون بتطبيقه في مجتمعاتنا ويجنبون أبناء الإسلام التشرد والبحث عن لقمة العيش في بلدان الكفر والانحلال الأخلاقي كما يدعون؟
قال الامام علي: (إن كلام الحكماء إذا كان صوابا كان دواءً , وإن كان خطأ كان داء ).
الظاهر إن الداء قد استوطننا, حتى أن  أغلب  رجال ديننا الذين يفترض بهم الحكمة قد آثر الصمت أو قول غير الحق في جميع بلاد الإسلام , وإلا كيف نفسر ظاهرة الذبح والخطف وهل أن فردا واحدا كابن لادن  والزرقاوي  قادر أن يقوم بكل هذا الرعب والإرهاب  بمفرده؟  أم أن هناك مجموعات كبيرة  تؤمن بها وتعتبرها من الإسلام ومن الدين , وما استقوت هذه الجماعات إلا  لصمت أو ضعف أو خطأ ارتكبه أولى الأمر من شتى الطوائف الإسلامية
ما بال رجال الدين لا يتحركون إزاء ذبح أبناء العراق من المسيحيين والاقليات الأخرى ومتى كان قتل المسيحي مستحبا في الدين الحنيف وهو قتلٌ  حرمه ُ الله , وأين الحق فيما يحصل من تفجير للكنائس المقدسة عند الناس جميعا على اختلاف أديانهم وما الحكمة من خطف العاملين في مجالات الإغاثة والمساعدات  الإنسانية  الذين جازفوا بأرواحهم خدمة للإنسان المعذب في العراق ؟ وهل جزاء الإحسان إلا  الإحسان ؟
متى طالب الإسلام النساء المسيحيات  والصابئيات  بارتداء الحجاب غصبا , والتدخل بحياتهم وتقاليدهم الدينية وتخريب ممتلكاتهم ومصدر رزقهم بتفجير محلات بيع الخمور التي ما أغلقت  ولا اعتدي عليها حتى بزمن الرسول ودعوته للإسلام  بل هو أقر حمايتهم والتعايش معهم , وأين نحن من الخليفة عمر بن الخطاب الذي دفع يوما غرامة عن مسلم كسر زجاجات الخمر عن غير قصد لرجل مسيحي يبيع الخمر ليسترزق منه ,  وهكذا  عشنا معا  منذ ما قبل الإسلام حتى الآن,  أبناء وطن واحد لا يفرق بيننا مفرق سوى بعث العراق وما بعده  طاعون العصر ألا وهو  الإرهاب السلفي المقيت.
متى اصبح الدفاع عن حقوق الإنسان أو رفض التخلف والمطالبة بمجتمع مدني راق يكون للمرأة به دور تستحقه لنستطيع تسميته فعلا مدنيا,  شيوعية؟  , إذ  أرى كل من يرد على مدافعي حقوق الإنسان  اليوم , يعتبرهم من الشيوعيين , وان كانت الشيوعية ليست تهمة ولا جريمة , بل هو- والحق يقال-  فضل يضاف لأ فضالهم إذ هم من أوائل  المدافعين عن هذه  القيم الإنسانية, لكن لا يجوز أن  نـُجرد منه نحن وغيرنا من  المدافعين  عن الإنسان بلا انتماء أو تحزب,  وهذا ما يريده  الفكر والتربية البعثية  والإرهابيين من السلفيين المتشددين ليدافعوا  عن بقاء التخلف وليخلقوا هوة بين المدافعين عن حقوق الإنسان والناس رغبة بجلب المتاعب لهم ومحاربتهم كي يطفئوا شمعة أراد أحدهم إشعالها للخير والعطاء حتى وإن كان دوره ضروريا بزمان نتدحرج  به نحو الهاوية سريعا
أخيرا لماذا  نحاول الابتعاد عن الحقائق وقلبها ونحن في حالة لا نحسد عليها بل نحن في اشد الأزمان ظلمة وأكثرها بؤسا , نحن في زمن لا يعرف  معنى الأخلاق , إلا بتبسيطها وإعطائها شكلا ماديا يتمثل بمظهر خارجي فقط  كالحجاب الذي يشكل قطعة قماش لا غير  والذي ارتبط وجوده بالعفاف عند المرأة , فأين الروح والقلب ؟ وأين العلم  والفكر والنوايا؟  آه من زمن  صارت به  مجتمعاتنا تخلط بين الفضيلة والرذيلة بل أن الفضيلة صارت هي تزوير  الحقائق وحجبها مهما كانت فاسدة , والفضيلة هو أن لا ينكشف الفساد , نحن بزمن لا يعتبر الفساد المستور رذيلة ,  فتبا ً لزماننا ولندرك الأخلاق كي لا ننتهي ونذهب كما ذهبت أمم من قبلنا  كما قال أمير الشعراء:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

لاهاي
20-10-2004